(انفصال) الجنوب في ميزان العقلانية الواقعية
7 / 7 / هذا التاريخ كلما حضر حضرت معه موجة عاتية من الكتابات والتحليلات والنقاشات.. واليوم سأدلي بدلو العقلانية الواقعية بعيدًا عن الشطحات والشعارات فخلال السنوات الأخيرة طرح سؤال جوهري على الساحة السياسية: (هل ما زال مشروع انفصال جنوب اليمن خيارًا واقعيًا، أم أن التحولات المتسارعة داخليًا وخارجيًا قد طمست ملامحه؟) رغم الزخم الذي اكتسبته القضية الجنوبية منذ انطلاق الحراك الجنوبي، فإن مسار الأحداث ما بعد 2015 يكشف عن تعقيدات بالغة، تجعل من الانفصال خيارًا غير محسوم، إن لم يكن آخذًا في التراجع.
المطالبة بانفصال الجنوب لم تأتِ من فراغ، بل نتجت عن تراكمات تاريخية بدأت بعد حرب 1994 التي رسّخت هيمنة النخبة الشمالية على مؤسسات الدولة، وأطلقت موجة من التهميش السياسي والاقتصادي ضد الجنوب، وهذه المرحلة ساهمت في صياغة وعي جنوبي جمعي يرى في الانفصال وسيلة للخلاص من التبعية والإقصاء.
شكلت مرحلة ما بعد تدخل التحالف العربي في 2015 لحظة فارقة بالنسبة للجنوب، فقد أُتيحت للقوى الجنوبية فرصة نادرة للتمكين السياسي والمؤسسي، إلا أن هذه اللحظة تحولت إلى فرصة ضائعة، وعوضًا عن بناء نموذج حكم رشيد، انخرطت بعض القيادات في صراعات داخلية ومصالح تجارية ضيقة، الأمر الذي زاد من نفور الشارع وأضعف المصداقية السياسية للقضية الجنوبية.
انكشفت هشاشة البنية الجنوبية من خلال الانقسامات الحادة بين مكونات الحراك، برزت النزعات المناطقية بشكل لافت، وطغى الولاء الجغرافي على معايير الكفاءة والوطنية في التعيينات والقرارات، وهذا التفكك السياسي والاجتماعي لا يعكس فقط فشلًا في إدارة مرحلة انتقالية، بل يشير إلى أزمة بنيوية تعيق بلورة مشروع وطني جنوبي موحد.
أسهمت التجارب السياسية والعسكرية في إعادة تشكيل وعي سياسي جنوبي أكثر نضجًا، وأصبح واضحًا أن المشكلة لا تكمن في (الشمال) كجهة جغرافية أو سكان، بل في منظومة الحكم المركزي التي استغلت الجميع، وهذا التحول المفاهيمي أضعف منطق التقسيم الجغرافي، وفتح الباب أمام تفكير مشترك في بدائل سياسية قائمة على الشراكة والعدالة، لا على القطيعة والانفصال.
الممارسات القمعية والانتهاكات في المحافظات الجنوبية خلال الأعوام الأخيرة ــ من اعتقالات وتعطيل للمؤسسات ــ لعبت دورًا محوريًا في تآكل الشرعية الأخلاقية والسياسية للقوى الانفصالية، وبدلاً من أن تعكس نموذج الدولة المنشودة، قدمت صورة جديدة للاستبداد، ما أضعف الحماسة الشعبية لمشروع الانفصال، خاصة في أوساط المتضررين من هذه الممارسات.
الموقف الدولي من قضية الجنوب ظل حذرًا، ويميل إلى الحفاظ على وحدة اليمن، ولو بصيغ معدلة، في ظل أزمات عالمية كبرى كحرب أوكرانيا، وتنامي النزعات القومية والاضطرابات الإقليمية، لا تبدو القوى الدولية راغبة في دعم أي مسارات انفصالية جديدة قد تخلق بؤرًا إضافية لعدم الاستقرار، وما يزيد من عزلة مشروع الانفصال، ويفرض على القيادات الجنوبية إعادة التفكير في أدواتها واستراتيجياتها.
فشل مشروع الانفصال - كما أظن - لا يعني القبول بتبعات حرب 1994 أو تبرير التهميش اللاحق لها، بل يجب أن يشكّل دافعًا نحو إصلاح سياسي شامل يعترف بالمظالم ويعيد توزيع السلطة على أسس عادلة، والمطلوب ليس القفز نحو الانفصال، بل صياغة عقد اجتماعي جديد يُبنى على قاعدة الاستقلال المحلي، والمساءلة، والتمثيل المتوازن، ويمنع عودة المركزية المطلقة أو إنتاج سلطويات جديدة.
الجنوب يقف اليوم عند مفترق حاسم بين مشروع انفصال يفقد زخمه ودعمَه، وبين فرصة للمطالبة بإصلاحات جذرية ضمن إطار وطني مشترك، وإن إنقاذ ما تبقى من المشروع الجنوبي يتطلب خطابًا جديدًا، وأدوات نضال عقلانية، وقيادة سياسية قادرة على تجاوز الماضي، والالتحام مع تطلعات الناس الحقيقية لا الشعارات العاطفية.
وحدها الشراكة الشاملة، والعدالة في التمثيل والثروة، يمكن أن تُخرج الجنوب خصوصًا واليمن عمومًا من دوامة الفشل، وتؤسس لدولة مدنية يسودها القانون والمواطنة، لا الغلبة ولا الإقصاء.