هل تشن واشنطن حربا ضد الحوثيين؟

الجزيرة

 منذ اشهر أقدمت مليشا الحوثي على إسقاط المسيرة الأميركية الأحدث من طراز "إم كيو 9″، ثم واصلت الجماعة استعراض قوتها واشتبكت مع المُدمرتين "يو إس إس كارني" و"يو إس إس مَيسن" التابعتين للبحرية الأميركية، قبل أن تطلق توعدها الأهم باستهداف كل سفينة إسرائيلية أو متجهة إلى إسرائيل حتى وقف الحرب وفك الحصار عن غزة.

 وأخيرا، وصل الاشتباك إلى ذروته في الساعات الأخيرة، حين قصفت البحرية الأميركية زوارق تابعة للحوثيين متسببة في مقتل 10 أشخاص.

على مدار الشهرين الماضيين، بدت واشنطن في قمة الغضب والارتباك معا، لأن الحوثيين يمتلكون بالفعل ترسانة صواريخ بالستية جيدة وطائرات مُسيَّرة يتجاوز مداها ألفيْ كيلومتر، وهي المسافة الفاصلة بين تل أبيب وصنعاء، ورغم أنه لا يمكن لهم نظريا تشكيل تهديد عسكري مباشر للداخل الإسرائيلي، فإنهم على عكس المقاومة يستطيعون فرض حظر بحري انتقائي ضد السفن الإسرائيلية المارة عبر مضيق باب المندب، وتهديد السفن الحربية الأميركية التي تظهر لحمايتها. وقد دفع هذا بكثير من السفن المرتبطة بإسرائيل لتجنُّب المرور في البحر الأحمر والدوران حول أفريقيا، في ظل تردد الموقف الأميركي والتعقيدات السياسية التي تحول دون تحمُّس الدول المُطلة على البحر الأحمر للانخراط في مواجهة ضد جماعة الحوثي في الوقت الراهن.

يُعد التعامل مع "التهديد الحوثي" أحد الملفات الشائكة التي تهدد بتفجر العلاقة بين أميركا وإسرائيل، فرغم الدعم العسكري المفتوح الذي تقدمه واشنطن للمجهود الحربي للاحتلال، ثمة خلافات جوهرية بين الطرفين، أهمها أن واشنطن لا تبدو مرتاحة لفكرة حرب بلا نهاية في غزة، فضلا عن تشككها في إمكانية إخضاع القطاع للسيطرة الإسرائيلية. تبدو الخلافات أصعب حول ما يفعله الحوثيون في البحر الأحمر، إذ ترفض واشنطن توجيه ضربة عسكرية مباشرة للحوثيين، ما دفع نتنياهو لإبلاغ الإدارة الأميركية عزمه التحرك عسكريا ضدهم إذا لم تتخذ واشنطن أي إجراءات. 

في الأخير، قررت واشنطن التدخل من أجل حماية السفن التي قد يستهدفها الحوثيون، دون أن تتخذ قرارا بالتصعيد المباشر ضدهم. وينبع هذا القرار المتحفِّظ حيال التهديدات الأمنية التي تواجه الملاحة في البحر الأحمر من حسابات معقدة، تتعلق في جوهرها بالأوضاع في اليمن والحرب الدائرة فيها منذ عام ٢٠١٤.

نقاط القوة والضعف

بيد أنه لا التحذيرات ولا التحركات الأميركية المحدودة أفلحت في دفع الحوثيين لإيقاف هجماتهم التي تسببت في توقف شبه كامل لوصول السفن إلى ميناء إيلات الإسرائيلي، وإجبار السفن المتجهة إلى إسرائيل على استخدام الطريق الأطول للوصول إلى أوروبا حول أفريقيا حتى لا تُستَهدف، ما يجعل الرحلة أطول بثلاثة أسابيع وأكثر تكلفة. ورغم ابتعاد ميناء إيلات عن قاعدة إطلاق الصواريخ الحوثية في صنعاء بنحو 2000 كيلومتر تقريبا، فإن الصواريخ الحوثية استطاعت الوصول إلى الأراضي الإسرائيلية بغض النظر عن محدودية ما حققته من أضرار. وسبق ونقل موقع "بوليتيكو" الأميركي عن مسؤولين في البنتاغون أن تكلفة إسقاط مُسيَّرات وصواريخ الحوثيين تُشكِّل مصدر قلق متزايد، حيث تكلف الصواريخ مليوني دولار لاعتراض مُسيَّرة تكلفتها ألفا دولار، وهو ما يرفع كلفة الصراع، ويدفع واشنطن للنظر في خيارات أقل تكلفة للدفاع الجوي، ومنها المفاوضات.

 

ما يزيد الأمور تعقيدا لدى الولايات المتحدة أنها ترغب في تحقيق أهداف متعارضة في الوقت نفسه. فمن ناحية، تعتبر نفسها مُلزمة بحماية المصالح الإسرائيلية والبحر الأحمر باعتباره منطقة ذات مصالح إستراتيجية، ومن ناحية أخرى لا ترغب في زيادة التصعيد مع إيران وحلفائها في المنطقة كي لا تزيد الأمور تعقيدا على المحور الشمالي ممثلا في حزب الله اللبناني، الذي بدأ بالفعل اشتباكات مع إسرائيل ما انفكت تزداد عنفا. وفي الوقت نفسه، اختبرت إيران شرعية تصعيدها عبر المؤتمر الدولي الذي دعت إليه من أجل غزة، وحضره ممثلون عن أكثر من 50 دولة، وانتقد جميعهم الولايات المتحدة، ما يشير إلى أن واشنطن قد تتجه لمراجعة خيارات الاحتواء أو التصعيد .

لقد بادرت طهران باتخاذ خطوات سريعة، منها إعلان الحرس الثوري الانتهاء من إعداد قوات تعبئة بحرية خاصة للعمل في مياه الخليج يبلغ تعدادها نحو 55 ألف عسكري، وتضم 33 ألف قطعة بحرية للعمل في مياه الخليج العربي وصولا إلى سواحل تنزانيا في شرق أفريقيا، وهو ما يتيح لتلك القوات الانخراط في معارك بقوارب سريعة، وحراسة منصات النفط والغاز البحرية الإيرانية، إلى جانب تحقيق هدفها بإغلاق البحر الأحمر إذا لزم الأمر، والاشتباك مع القوة الدولية المحدودة التي شكلتها الولايات المتحدة. ورغم تفوق الطرف الغربي في تلك المعادلة عسكريا، فإن الطرف الآخر قادر على تحقيق انتصارات تكتيكية وفق نظرية الحرب غير المتكافئة، ما يعني أن التصعيد يُنذر باستنزاف طويل للقوة الغربية، لا مجرد عملية سريعة لتأمين الملاحة دون كلفة كبيرة كما يتصوَّر البعض.

جُرِّبت الحرب البحرية غير المتكافئة في اليمن من قبل منذ عام 2015، حين اتخذت جماعة الحوثي جزيرة ميون التي تتحكم بالمدخل الجنوبي لمضيق باب المندب موقعا عسكريا لها. ورغم تمكن التحالف العربي من السيطرة على المضيق، فإن ذلك لم يمنع الحوثيين من إثبات حضورهم عبر مهاجمة سفن دول التحالف، وإطلاق الصواريخ حتى صوب البحرية الأميركية نفسها. كما زرعوا ألغاما بحرية عشوائيا في المياه الإقليمية، وأحدثوا أضرارا بالغة بما يمتلكونه من ترسانة بحرية تشمل صواريخ "كروز" مضادة للسفن يصل مداها إلى 300 كيلومتر، ومسيرات هجومية وانتحارية، ما يعني أن أي سفينة تقترب من مضيق باب المندب يمكن أن تتعرض للتهديد بصاروخ يُطلَق من أقصى شمال البلاد، وبواسطة أسلحة يُتحكَّم بها من صنعاء.

إلى جانب كل تلك الأدوات، يُعتقد أن إيران زودت الحوثيين، بحسب مزاعم غربية، بسفينة مراقبة في البحر الأحمر مهمتها كشف مواقع السفن التجارية التي أغلقت أجهزة الراديو الخاصة بها لمنع تعقبها عبر الإنترنت، الأمر الذي يُعتقد أنه دفع أغلب شركات الشحن لتغيير مسارها، والابتعاد عن ممر مشتعل قد لا تتمكن أي قوى كبرى من السيطرة عليه وإخضاعه بقوة السلاح دون السياسة، على الأقل في وقت قريب. وتُعوِّل الولايات المتحدة على الصين والهند بوصفهما من أكبر حلفاء إيران في الضغط عليها لحل أزمة البحر الأحمر إذا ما ارتفعت أسعار النفط عالميا نتيجة لتلك التطورات المرتبطة بالعدوان على غزة.

يبدو أن توجيه ضربة عسكرية غربية شاملة للحوثيين ليس أمرا سهلا على ضوء التعقيدات والتشابكات الكثيرة التي تربط الحوثيين بمحادثات السلام مع الرياض، والتحالفات الوثيقة مع طهران، ورغبة واشنطن نفسها في احتواء الحوثيين على المدى البعيد داخل اليمن لحماية مكتسبات الوساطة الأممية، علاوة على التوتر في الأهداف المُعلنة حيال حرب غزة بين الحليفين الأوثق، تل أبيب وواشنطن. لذلك، فإن هجمات الحوثي على السفن الإسرائيلية مرشحة للاستمرار حتى ينجح المجتمع الدولي في إيقاف آلة القتل الإسرائيلية، ووضع نهاية للحرب الإسرائيلية التي توشك على دخول شهرها الرابع.

لذا فإن الاحتمال الأكثر ترجيحا هو أن واشنطن، كما فعلت في تدخلها الأخير، سوف تستمر في سياسة التدخلات المحدودة الهادفة لمنع ضربات الحوثي في مهدها، وهي سياسة لا ترقى لتقويض قوة الحوثيين، لكنها تنأى بالولايات المتحدة عن توسيع نطاق الصراع في البحر الأحمر. لا يُدلِّل على ذلك أكثر مما قاله البيت الأبيض في أعقاب الهجوم الأميركي على الزوارق الحوثية، إذ أصدر بيانا قال فيه إنه لا يسعى لتوسيع نطاق الحرب في الشرق الأوسط.

 وكما قال جون كيربي منسق الاتصالات الإستراتيجية بمجلس الأمن القومي الأميركي: "نحن لا نسعى لإشعال صراع مع الحوثيين، الأفضل هو أن يتوقَّف الحوثيون عن هجماتهم.