أخبار
كنت أصرخ في طابور الصباح في المدرسة (الله، الوطن، الثورة) ولا أدري حقيقتها وعمقها
كانت ذكرى السادس والعشرين من سبتمبر في طفولتنا مجرد يوم آخر ننتظره بفارغ الصبر، عيد صغير نتنفس فيه الحرية من المدرسة، بينما يتنفس آباؤنا الراحة بعيدًا عن أعباء العمل. يوم جميل، بسيط، نحتفل فيه دون أن ندرك معانيه الحقيقية. في كتب الوطنية، قرأنا عن الثورة وعن أسبابها، درسنا كيف خرج الثوار ضد الظلم، وحفظنا الدروس كي ننجح في الامتحانات لا غير.
لكن الزمن مر… وكبرنا.
لم تعد ذكرى سبتمبر مجرد يوم عطلة. تغيرت نظرتنا مع كل مشهد رأيناه، مع كل قصة سمعناها عن سلالة الإمام وعن بطشهم. أدركنا حينها ما لم نفهمه في طفولتنا. عرفنا اليقين التام بأن تلك الثورة لم تكن مجرد حدث تاريخي عابر، بل كانت انتفاضة ضد الفقر، والجهل، والمرض، وضد قيد القهر الذي التف حول أعناق اليمنيين.
الثورة الجمهورية جاءت لتفتح آفاق الحرية والمساواة، ولتعلن أن اليمن لكل أبنائه بلا تمييز. أتاح النظام الجمهوري الفرصة للجميع للمشاركة في بناء الدولة، وقضى على مفاهيم الإقطاع الديني والتمييز الطبقي الذي كان يُمارس تحت غطاء الدين.
ثورة 26 سبتمبر 1962 في اليمن لم تكن مجرد انتفاضة على النظام الإمامي الذي حكم البلاد لقرون، بل كانت ثورة تحررية شاملة قلبت المفاهيم السياسية والاجتماعية رأسًا على عقب. ألغت الثورة حصرية الحكم لفئة معينة تحت مسمى "البطنين"، وهو النظام الذي كان يحصر السلطة في سلالة معينة من آل البيت بحجة "الحق الإلهي". كانت هذه الحصرية تميز النظام الإمامي وتقصي معظم أبناء اليمن عن المشاركة في الحكم، مما رسخ تمييزًا طبقيًا خطيرًا وخلق فجوة كبيرة بين الحاكم والمحكوم.
حُمم سبتمبر، ثورة ودماء وأحلام مُغتالة.
لا ذنب لثورة سبتمبر فيما آل إليه الوطن،
ولا جريمة لرجالها الأوائل الذين رحلوا قبل أوانهم…
الجريمة الحقيقية أن يتحوّل الوطن بعد نصف قرن
إلى وليمة مفتوحة للنهب والعبث،
إلى غابة تُسمع فيها فقط قرقعة الأسنان وضجيج الأنياب،
تمضغ لحم الأرض والإنسان بلا رحمة ولا هوادة.
لم يكن هذا ما حلم به عبدالمغني،
حين كتب بدمه البيان الأول للحرية،
ولا ما تصوّره القردعي،
وهو يقتفي أثر الرصاص في جبال خولان،
ولا ما أراده النعمان،
وهو يذرع المنافي باحثًا عن وطن محمول في حقيبة أوراقه الصفراء.
لكن الأحلام الكبيرة تُغتال دائمًا على أيدي الصغار…
هكذا تقول لنا كل ثورات التاريخ.
والتاريخ لا يُطوى ولا يُطفأ…
قد يتباطأ مجراه، قد يكتسي بالطحلب والوحل،
لكنه يستمر في التدفق، ويظل حاضرًا نابضًا…
وثورة 26 سبتمبر،
حلم ولحظة ميلاد وصرخة الوجود الأولى في العصر الحديث،
ستبقى فوهة تقذف حممها بعد ثلاثة وستين عامًا.
كل كرة نار تتدحرج اليوم،
وكل صرخة تنطلق،
ليست إلا من تلك الشرارة الأولى.
26 سبتمبر، بكل ضوءها وصرختها،
شهادة حية على الثورات،
وعلى الشوارع التي ارتجفت بخطوات الأبطال،
وعلى الأعلام التي رفرفت في وجه الظلم.
إنها لحظة المجد التي تثبت
أن التاريخ لا يموت،
وأن كل دم أريق، وكل صرخة أطلقت،
ما زالت تحركنا اليوم…
تذكرنا دومًا أن الثورة نبض مستمر
في وجدان الأرض، وفي قلب كل إنسان..!