أخبار
البيضاء.. حين تُهان الجمهورية في صمت
ثمة محافظة يمنية تُدعى البيضاء، لكنها ليست بيضاء في أعين السلطة، بل باهتة – في نظرهم – حد الإقصاء. بيضاء الجغرافيا والرجال، لكنها مُظللة بإرث من التجاهل السياسي المركب، كأنها لا تستحق موقعها، ولا تاريخها، ولا حتى جغرافيتها.
البيضاء، التي لا يعرف عنها كثيرون إلا أنها موطن لبعض الجبال والقبائل، ليست هامشاً كما أرادوا، بل عمقًا لمشروع وطني رفض أن يُؤدلج، وأن يُختزل، وأن يُساق كالقطيع في ركب المليشيات أو مراكز النفوذ. ولهذا، بالضبط، أُقصيت.
في زمن انحنت فيه الكثير من الجبهات، وتجذرت الطائفية في مفاصل الحكم، وتشرذمت المشاريع، ظلت البيضاء وحدها تُقاتل بهوية واضحة: لا للسيد، ولا للشيخ المتسلط، ولا للوصاية. أبناء البيضاء لم يكونوا يوماً طائفيين، ولا مناطقيين، ولا متعصبين. كانوا يمنيين فقط. جمهوريين بالفطرة، لا بالتوجيه. وهنا مربط الفرس: لا يمكن للأنظمة المتسلطة، القديمة أو الجديدة، أن تتحمل صوتاً جمهورياً نقياً لا يلهث وراء المغانم، ولا يُساوم على ثوابته. وهكذا، صُنّفت البيضاء كتهديد، لا كرافعة.
حين لم يستطيعوا تطويع البيضاء، حاولوا شيطنتها. فزرعوا فيها “القاعدة”، أو تغاضوا عنها على الأقل، ثم راحوا يصورونها كمنطقة متطرفة، بينما كانت في حقيقتها ساحة صراع بين أبناء قاوموا، وقبائل رفضت، ومجتمع أبى أن ينزلق. القاعدة لم تكن وليدة المجتمع البيضاني، بل وليدة تواطؤ الدولة وانهيارها. ورغم كل ما قيل، لم يكن هناك صوت بيضاني واحد صادق يحتفل بالإرهاب أو يبرره. كانوا وحدهم يقاتلون في الميدان، بينما تُهم تُلصق بهم من خلف المكاتب والمقاهي.
حين اندلعت الحرب، لم تنتظر البيضاء أحداً. شكلت مقاومة شعبية خالصة، خرجت من قلب القبائل، ومن قرى لم يصلها حتى طريق معبّد، لكنها وصلت إلى الجبهات. ومع ذلك، تُركت وحيدة. لا سلاح، لا دعم، لا حتى اعتراف سياسي. أليست هذه هي الجمهورية؟ أليس هؤلاء هم “جمهوريي العرق الصافي”؟ فلماذا لم تُحترم تضحياتهم؟ الإجابة بسيطة: لأنهم لم يكونوا تابعين. لأنهم لم يرفعوا صورة زعيم، ولا راية فصيل، بل اكتفوا براية اليمن.
أكثر ما يُقلق مراكز النفوذ هو أن تنبع قوة لا يستطيعون التحكم بها. والبيضاء، بتاريخها المقاوم منذ الإمامة، تمثل هذا القلق. هي عقدة في خريطة المشاريع الضيقة، وبوصلة لجمهورية حقيقية لو تُركت لتأخذ مكانها الطبيعي. لم تُمنح البيضاء وزارة سيادية، ولا قيادة عسكرية مؤثرة، ولا حتى حصة في مفاوضات السلام، رغم موقعها الحاسم بين ثماني محافظات. والسبب؟ لأنهم يعرفون أنها لن تساوم، ولن تصمت، ولن تتنازل.
من يخشى البيضاء؟ هو من يخشى الجمهورية. من يهمشها؟ هو من لا يريد شريكاً بل تابعاً. ومن يحاصرها إعلامياً؟ هو من يعرف أن البيضاني إذا نطق، نطق باسم اليمن كله، لا باسم السلالة، ولا الجهة، ولا الولاء.
البيضاء ليست ساحة فراغ. إنها ضمير الجمهورية الموجوع.