تقارير خاصة

وديعة عزعزي.. روح ثورية ما تزال متقدة

كتب/ صفا ناصر

 



   
هي واحدة من مناضلات حرب التحرير ضد الاستعمار البريطاني في عدن، اللواتي عشن تلك السنوات المتوترة التي سبقت الاستقلال. وهي ديبلوماسية أيضاً، لم يشغلني التفكير كثيراً في المسمى، ثم ما لبثتُ أن أدركتُ معناه حين اصطدمتُ بجدارٍ صلد سوّرت به وديعة عزعزي الجانب الآخر من حياتها. حاولتُ المراوغة، استدرجتها أكثر من مرة صوب تلك المناطق المحرّمة، لكنني كلما اقتربت، كانت الديبلوماسية المتمرّسة تأخذني من يدي بهدوء وترجع بنا إلى ساحة العمل النضالي، والهتاف ضد المستعمر والطلعات السرية لتوزيع المنشورات. 
   
ولدت وديعة عزعزي في العام 1947، في حارة المعروف بحي الشيخ عثمان في عدن. هي بكر العائلة من الإناث، فكانت محط التدليل من جدتها وخالاتها ووالدها عبد الله فارع، الذي تصفه بأنه "أفضل أب في العالم". "من أجلي أدخل جهاز التلفون في البيت كي أتصل مع صديقاتي". نبرة صوتها تخبر عن فرح البنت بحب أبيها لها، تكمل: "ولأنني أعشق أغنيات أم كلثوم ونجاة، اشترى لي جهاز جرامافون". لكن أكثر ما تذكره عنه حرصه وتشجيعه الدائم لها كي تكمل تعليمها. "كان يردد دائماً: تعلمي واعملي، ليس من أجلي بل من أجلك. وفي سنتي الأولى في الثانوية، أهداني قلم حبر مطلي بالذهب".
ولأن الحياة لا تستمر طويلاً في منحك الدلال والهدايا، فقد اختبرت وديعة خلال دراستها الثانوية معانٍ جديدة مثل القهر والاستبداد.


للاستعمار عينان زرقاوان
من الجائز القول إن المدرسة الثانوية كانت مبعث الروح الثورية لدى وديعة. وأن المديرة الإنجليزية هي من ساعدت على تحرير تلك الروح من مكمنها. "مسز بيتري"، تصفها وديعة بأنها مسّتبدة، مجرّدة من الإنسانية، وبعينيها الزرقاوين وشعرها الذهبي المجعّد، جسّدت الوجه القبيح للاستعمار."كانت تعد مضغ العلكة أو ارتداء شريطة شعر بلون مختلف أموراً تستوجب العقاب بصفعة مدوية على الوجه". إضافة إلى قسوتها، كان هناك التمييز في الدروس والمناهج بين الطالبات العدنيات وطالبات الجاليات الأخرى المقيمة في عدن. "كن يدرسن الكيمياء والأحياء في حين نتعلم نحن الطبخ وغسيل الملابس. ثم كانت لحظة التحول حين رأينا دفعة جديدة من أجهزة الغسالات الكهربائية تملأ باحة المدرسة". في 20 فبراير 1962 انطلقت الانتفاضة. "أعلنا الإضراب، واتفقنا على عدم العودة إلى المدرسة إلا بعد تحقيق مطالبنا، خرجنا في مسيرات احتجاج يومية، طالبنا بتغيير المناهج وبعزل المديرة".

الانتفاضة أشعلت الحماس الثوري الذي كان كامناً قبل ذلك اليوم. "لطالما شعرت أن روحاً ثورية تسكنني. في حصص الإنشاء، كنت أكتب الكثير من الموضوعات عن القومية والحرية، وأقرأها أمام الصف بصوت يتهدّج ويدين ترتعش من فرط الحماسة".
حين توقفت الدراسة، كانت الفرصة ملائمة كي تنخرط وديعة ورفيقاتها في الحركة النضالية والانضمام للجبهة القومية، لكنها كانت بحاجة إلى ذريعة كي يُسمح لها بالخروج من المنزل، فاخترعت قصة تعلم الخياطة. "أخبرت أمي أن هناك صفوفاً جديدة لتعليم الخياطة والتفصيل أرغب في الالتحاق بها". تكمل وديعة مع ابتسامة متآمرة مثل طفل فرحَ بنجاح حيلته: "صدقني أبي، وللتعبير عن سعادته وتشجيعه، اشترى لي ماكينة خياطة".

الكثير من زميلات وديعة في المدرسة التحقن بالقطاع النسائي في الجبهة القومية، وفي ميدان العمل النضالي تعرفت إليهن عن قرب. "تعرفت إلى رفيقات مثل عايدة يافعي، فتحية با سنيد، زهرة هبة الله، فوزية جعفر وغيرهن الكثير. كنا خليات منفصلة، لا نعلم شيئاً عن عمل الخلية الأخرى، نجتمع ونقسم المهام بين توزيع المنشورات، وإلقاء الخطب في المساجد". يظهر عليها الاشتياق جلياً عندما تسرد وقائع تلك الأيام، تصمت قليلاً ثم تختزل شعورها في عبارة حنين: "كانت أيام نضال مزدهرة، تعي فيها غاية وجودك في الحياة".
وبعد عام من الإضراب استؤنفت الدراسة.  

رسالة إلى جمال
ثمة عوامل كثيرة، إلى جانب المديرة الإنجليزية المستبدة، أججت الوعي الوطني المبكر لدى وديعة. كانت المنطقة كلها في حالة ثوران، ثورة الجزائر، سيرة جميلة بو حيرد، ولا ننسى طبعاً الحاضر الدائم في كل حلقة من حلقات هذه السلسلة: جمال عبد الناصر، الذي تشبعت وديعة بخطبه في عمر مبكر. "في السادسة عشرة، قررت أن أكتب له خطاباً أعبر فيه عن تأثري بفكر القومية العربية، وصلني الرد، رسالة شكر ومجموعة من الكتب". تضحك. "بالطبع كانت من مدير مكتبه حسن صبري الخولي، لكن أهلي ظلوا فخورين بالبنت الصغيرة التي تجرأت وكتبت خطاباً إلى الرئيس".

في العام 1965 تخرجت وديعة من الثانوية وتأطرت في العمل النضالي، أصبحت خلية  قيادية في الجبهة القومية مكلفة بتنظيم حلقات تثقيفية وزيارات توعوية إلى المنازل، إضافة إلى توزيع المنشورات وقراءة الكتب وتلخيصها. علم والدها، فنصحها محذراً من العواقب الخطرة لعملها، لكنها قررت المضي إلى النهاية. "لم نكن نشعر بالخوف رغم صغر أعمارنا، إلى جانب أننا كنا في حماية الشباب الفدائيين المكلفين بتتبع خطانا خلال أدائنا مهامنا". أما والدتها فكانت هي الأخرى تجيد التكتم والعمل السري. "بعد الاستقلال، اعترفت لي أمي أنها كانت على علم طوال الوقت بنشاطي في الجبهة القومية، وأنها كانت تخفي الخطابات التي تصلني من القيادة والمرسلة إلى "وفاء"، اسمي الحركي، ثم تحرقها".

وأخيراً، تحقق الاستقلال، فكان يوم ميلادٍ جديدٍ للجميع. "شعرنا حينها أن حياتنا ابتدأت للتو، أخذنا نعيد إحياء أحاسيسنا وأحلامنا التي منعناها طويلاً، بتنا نضع خططاً للمستقبل، للعمل والحب والزواج". 

في عام 1969 تزوجت وديعة. تنظر إلى صورة زوجها المعلقة في الجدار قائلة: "رحلة كفاح مشترك عمرها أكثر من خمسين عاماً". تجاهلت سؤالي عن قصة اللقاء الأول بينهما، كعادتها مع هذا النوع من الأسئلة، ثم أكملت: "في العام 1971 سافرت إلى ألمانيا كي ألتحق بزوجي الذي كان يدرس هناك، وبذلك دخلت مجال العمل الدبلوماسي". 
خمس سنوات قضتها وديعة في برلين، ثم عادت إلى عدن، ومنها إلى بلغاريا، وأخيراً إلى الأردن في العام 1993، حيث كان ختام مشوارها في العمل الديبلوماسي الذي حمل ذكرى الظلم والجحود.

تهنئة بالإكراه  
حين دخلت قوات علي عبدالله صالح مدينة عدن في العام 1994، كانت وديعة مستشارة في السفارة اليمنية بعمّان، طلبوا منها توقيع برقية تأييد وتهنئة للرئيس "المنتصر"، لكنها رفضت. "كيف أؤيد نظاماً اقتحم أرضي". لم يعجبهم جوابها، وصموها بالانفصالية، وجاء العقاب في شكل قرار بإيقاف صرف مرتبها لإجبارها على الخضوع، لكنها لم تتراجع. "كنت اقترضت مبلغاً من المال لشراء سيارة، ثم صدر القرار بإيقاف صرف مرتبات كل من رفض التوقيع على بيان التأييد، عندئذ، حمل البعض إلي نصيحة تضمر في باطنها الترهيب والتلويح بحاجتي إلى مرتبي لدفع التزاماتي، لم أتردد، بعت السيارة وسددت مبلغ القرض". تهز رأسها نافية." لا أسمح لأحد أن يرغمني على فعل أمر يخالف قناعتي".

لم تتوقف الخسارة عند حدود المال وحسب، استمرت وديعة في دفع ثمن عدم الرضوخ الذي كلفها غالياً، فكان قرار فرض التقاعد القسري في العام 2000. كانت وديعة بدرجة وزير مفوض حين أُجبرت على التقاعد. لم يتبق لها إلا سنوات قليلة كي تنال درجة سفير. "منعوني حظي في الترقية، سلبوا مني خمس سنوات من عمري ومن خدمتي، منصب سفير كان حقي الذي سلبوني إياه". لم تقبل وديعة القرار التعسفي بإحالتها للتقاعد، هي التي ما انفكت تلازمها روح المقاومة والثورة على الظلم. "قاومت، سافرت إلى صنعاء، قابلت الكثيرين، اعترضت وجادلت، لكن بلا فائدة. رغم كل هذا فلست نادمة على شيء".

حين تسلب منك حقوقك وتعجز عن استردادها، يظل يرافقك شعور بالأسى. لم تنس وديعة الظلم والإساءة، ما تزال تستدعي ذكراها بمرارة ظاهرة، لكنها لم تنس كذلك الذكرى الجميلة التي تركها السفير حسن اللوزي. " كان مختلفاً، يجلّني ويحترمني، يقدّر عملي وجهودي، كان إنساناً وأديباً على درجة عالية من النبل".

لم تجب وديعة على كثير من أسئلتي، تنصرف عن حديث الذكريات الشخصية وتعود دوماً إلى زمن العمل النضالي. ستون عاماً مضت وما تزال روح الحماس الثوري تسكنها، حين تحدثك عن المستعمر وسنوات النضال تلمع عيناها ويعلو صوتها، تشعرك أنها عائدة للتو من إحدى المسيرات، وأنها ما تزال تحمل في ملابسها بعضاً من تلك المنشورات. ورغم إحساسها بالظلم، يغلب عليها طابع الارتياح، ذاك الذي يشعر به من بذل كل جهده في إتمام واجباته، يتعاظم الشعور حين تتأمل أوسمتها، يلوح أمامها وسام الاستقلال دليل الإعتراف بالفضل الذي ينسيها الجحود. تكرر كثيراً قول: "الحمدلله، أدينا دورنا على أكمل وجه".  تختم كل ذكرى عن سنوات النضال بعبارة "أيام الزمن الجميل". وفي حال كنت مستمعاً جيداً، ستلتقط أذنك نبرة اشتياق تتردد في صوتها، تخبرك أنها لم تغادر بعد ذلك الزمن.

#اليابان تقدم حزمة مساعدات لـ #اليمن بقيمة 13.8 مليون دولار


السفير السنيني يشيد بمواقف اليابان وتقديمها حزمة مساعدات جديدة لبلادنا بقيمة 13.8 مليون دولار


توقعات حالة الطقس اليوم الأربعاء 17 ديسمبر


#لحج.. القوات الجنوبية تكسر هجومًا حوثيًا في طور الباحة